وليد عثمان

رغم منوفيته، وكنا وقتها أسرى الصور الذهنية البشعة عن المحافظات، أعتقد أن أحمد عبدالرؤوف كان أحسنا أخلاقاً، لا ينافسه في ذلك إلا عبده فتحي وسيد "زهرة الوادي"، هكذا كنا نسميه نسبة إلى مسقط رأسه : محافظة الوادي الجديد.
ما يرفع أحمد درجةً أنه كريم ، مرة أخرى رغم منوفيته، وشاء حظه العاثر أن يقتسم الغرفة مع ثلاثة "شياطين"، بمعايير التسعينات، وكنت أحدهم وأول من شاركه، وفي أول عام.
لم تجمعني بأحمد الغرفة فقط، إذ كنا يتيمين، وأسسنا فيما بعد بالمدينة تجمعاً لأيتام الدفعة، وحُسن الخط.
مما لا أنساه لأحمد أني عرفت على يديه لأول مرة أن " الرز المعمر"، أو "البرام" في لهجتهم، يمكن أن يكون بالسكر ، وهو مالم نعتد عليه في قريتنا. ولاحقاً ، عرفت من زميل آخر ، لعله كان من كفر الشيخ، أنهم يدسون في "البرام" لحماً ودجاجاً وحماماً، وكان الاكتشاف مدهشاً حين جربناه.
*****
كنت أول ساكني المبنى في المدينة حين التحقت بالجامعة في أكتوبر 1993. كان المبنى الضخم موحشاً قبل أن يملأه الطلبة، فأقنعت محمد عثمان بالإقامة معي، وكان يدرس في كلية الآداب ولا يقيم في المدينة، ليؤنس وحدتي. ونجح في الهروب إلى داخل المدينة حيث أقام معي أسبوعاً قضيناه وحدنا في مبنى من خمسة أدوار أو يزيد ، في كل مبنى أكثر من 50 غرفة.
كنت أخرج وأدخل بشكل شرعي، بينما محمد باق في المدينة. في ليلة اشترينا كمية كبيرة من الجوافة ، أكلنا حين امتلأنا وبقي الكثير فقررنا أن نرمي الكيس بما فيه فعلق في أغصان شجرة في حديقة المبنى.
حين اقترب العام الدراسي من نهايته في يونيو ، كانت رائحة العفن تملأ الغرف المطلة على الحديقة، وكنت وحدي أنظر إلى الكيس وأبتسم.
وبعد أيام، أعلنت أني اكتشفت مصدر الرائحة فتعاونا في إسقاط الكيس، وشكرني الزملاء فابتسمت.
***
كان رمضان شهر الوفرة في طعام الإفطار والسحور. كانت أغلبية الزملاء يسافرون إلى محافظاتهم وأبقى من ثلاثة أو أربعة منهم فقط ومعنا كل "بونات" الطعام المخصصة لكل الدفعة. .
بهذا العدد من "البونات" كنا ننتقم من إدارة المدينة التي تخصص لكل فرد "ربع فرحة" فنحصل ، نحن الباقين في المدينة، على فراخ وأرز وخضار تكفي مطعماً، و نعطي معظمه لشركائنا في الدور الذي نقطته: طلاب دار العلوم.
ما لا ينساه أحد جملة زميلنا العزيز الذي كان لا يتعامل إلا بالفصحى، فحين وقفنا في الطابور مرة للحصول على الطعام فأجأ الجميع بقوله للعامل الواقف خلف المخلل "أريد زيتوناً ولا أريد ليموناً".
تجمدت ملامح العامل، بينما ملأنا المكان ضحكاً وصارت الجملة من ألذ ما تبقى من ذكريات المدينة.
*****
حين اقترب موعد المغرب في رمضان، اقترحت على زميل لنا مغترب مثلنا، لكنه كان يقيم خارج المدينة، أن يدخل معي ليشاركنا الإفطار الذي لن يدركه في سكنه.
تخليت هذه المرة عن عادة تهريب الزملاء إلى الداخل، احتراماً للشهر الفضيل، وعرضت الأمر على الحارس فقال إن القرار بيد ضابط الشرطة.
دخلنا مكتب الضابط نستأذنه، فكان أن عاقبنا معاً بالإفطار خارج المدينة واحتجز أوراقنا الرسمية، طالباً أن نعود لأخذها لاحقاً. العقوبة الأشد كانت دفعنا في المطعم مبلغاً يقترب من رسوم المدينة في شهر، وحين عدنا إلى الضابط لنستعيد أوراقنا طلب الحارس أن ننتظر "الباشا" حتى يفرغ من صلاة المغرب.
***
بعد واحدة من مشكلاتي في المدينة عاقبتني الإدارة بسحب كارنيه الدخول، لكن المشكلة أننا كنا نستخدمه أيضاً في تناول الوجبات بعد تمريره على كمبيوتر المطعم ما عدا وجبات رمضان ، إذ كانوا يمنحوننا "بونات" منعاً للزحام.
اسودت الدنيا في وجهي ، فالدخول سهل، لكن الحرمان من الطعام يعني الضياع. استجمعت ملامح البراءة والضعف وتصنعت العمى مستغلاً نضارتي السميكة وقتها فمنحني مسؤول في إدارة المدينة خطاباً أتناول بموجبه الطعام.. لكن مع ذوي الاحتياجات الخاصة.
كانت أسعد أيامي التي شاركت فيها ذوي الاحتياجات مطعمهم؛ فالكمية المصروفة لكل منهم ضعف ما يناله غيرهم ، فضلاً عن أن عمال المطعم يساعدونهم في حمل صواني الطعام.
بعدما كنت أعتبر سحب الكارنيه نهاية العالم ، كانت الإدارة تطاردني،بعد انتهاء المشكلة، لاسترداده، وكنت أتهرب ؛ لأبقى في زمرة ذوي الاحتياجات الخاصة.
***
خلال السنوات الأربع، تبادلنا كل أنواع الطعام الذي نأتي به من بيوتنا، وفي نهاية امتحانات العام الأخير أصر صديقنا عربي سلامة على على أن يدعونا إلى غداء أخير في منزله.
هناك، جمعنا "الفطير المشلتت" بملحقاته. أكلنا حتى دارت بنا الأرض وكدنا نتخلف عن حفل وداع أقمناه في مركب بشارع البحر الأعظم في الجيزة.
كانت "مجموعة الفطير المشلتت" تجلس في الحفل بنصف وعي من أثر ه الممتد في دمائنا.
رقصنا حول المطرب بقدر ما نستطيع، ولما حان وقت الوداع رجوته أن يعيد غناء رائعة المغدورة ذكرى "وحياتي عندك".

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).